الصابون الحلبي.. عندما يعكس الصابون صورة مدينة تراثيًا وإقتصاديًا
تشتهر كل واحدة من محافظات سوريا بطابع مميّز ومنتج ما يعكس ثقافة تلك المحافظة، وغالبًا ما كان هذا المنتج يُجلَب كهدية عندما يُسافر أحد السوريين إلى تلك المحافظة. ومدينة حلب ليست استثناء عن تلك القاعدة، فكل من توجّب عليه السفر إليها كان يجلب معه عادةً صابون الغار أو ما يُطلق عليه “الصابون الحلبي”.
لقد ارتبط إذًا الصابون بمدينة حلب وحمل اسمها مما يعكس الأهمية البالغة التي كانت تشغلها صناعة هذا المنتج المميّز، وذلك على صعيد تراثي والآخر اقتصادي. فالأول يأتي من تاريخ هذه الصناعة القديم جدًا وما تحمله من أهميّة بالغة كصناعة تقليديّة والآخر كونها حرفة يتقنها المئات وتؤمن فرص عمل للآلاف.
تعالوا إذًا معًا لنتكلم عن قصة صناعة الصابون الحلبي منذ اللحظة الأولى لولادتها، وحتى يومنا الحاضر، معرجين على التطوّرات التي لحقت بهذه الصناعة على مر العصور.
تاريخ متأصل وحاضر مشرّف
لم تُجمع المصادر عن تاريخ موحّد يخبرنا متى بالضبط شهد العالم ولادة الصابونة الحلبية الأولى، حيث تتكلم بعض المصادر عن أنّ عمر صناعة الصابون الحلبي تعود إلى 2000 عام قبل الميلاد، وتتحدث مصادر أُخرى عن وقت أقرب منذ ذلك، وبين هذا وذلك يعتبر الكثيرون أنّ الصابون الحلبي هو أقدم صابون صُنع في الأرض على الإطلاق.
وبسبب هذا التاريخ العريق للغاية، ارتبط هذا الصابون بعدد من الحكايات والأساطير التي لا مجال للتأكد منها، فتتكلم أسطورة ما عن أنّ زنوبيا ملكة تدمر كانت تحرص على اقتناء صابون الغار، وتكلمت أساطير أُخرى عن أنّ الملكة كليوبترا هي أيضًا كانت تملك الصابون الحلبي.
الفينيقيون بدورهم استعملوا هذا الصابون وكذلك الرومان، وانتقل إلى أوروبا مع نهاية الحروب الصليبية كما تقول بعض المصادر التاريخيّة، وإلى وقت قريب كان استعمال صابون الغار مقتصرًا على علّية القوم وطبقة النبلاء، ولم ينتشر بين عامة الشعب إلّا مع حلول العام 1953 ميلادي، حيث أدى خفض الضريبة عليه إلى انخفاض سعره مما جعل الطبقتين المتوسطة والفقيرة قادرتين على شرائه أخيرًا.
احتلت مدينة حلب بطبيعة الحال مركز الصدارة في تصنيع وتصدير هذا المنتج، وهو ما أكسبها أهمية اقتصادية بالغة الأهمية، في مدينة تُعتبر بدورها عاصمة البلاد الاقتصاديّة، وبسبب ذلك أُسس العديد من منشآت تصنيع الصابون التي كان يقارب عددها حوالي 150 منشأة مرخّصة قبل الحرب، ومعظمها تتوزع في حلب وريفها، بسبب الطقس الجاف وتوفّر الزيتون واليد العاملة الخبيرة.
50 منشأة منها صغيرة محدودة الإنتاج ومعظمه للاستهلاك المحلّي، وتنتج الواحدة منها بين 50-75 طنّ سنويًا، في حين يوجد 50-75 منشأة فعّالة، وتنتج الواحدة منها ما بين 300-700 طنّ سنويًّا، كما يوجد منشآت أكبر عددها 4-5 منشآت، وتنتج الواحدة منها مابين 2000-2500 طنّ سنويّاً.
وفّرت تلك المنشآت عدد لا بأس به من فرص العمل، والعمّال في مهنة صناعة الصابون موسميّون، حيث يحتاج المصنع إلى ثلاثين عامل تقريباً في فترات الطبخ، وينخفض إلى 3-4 عمال باقي أيام العام. ويُصنع عدد لا بأس به من هذه المعامل الصابون بطريقة تقليدية للغاية لم تتغير منذ قرون عديدة. فما هي تلك الطريقة؟
الصابونة .. من الشجرة إلى حمام الزبون
تعتمد صابونة الغار من اسمها على مكوّن رئيسي وهو زيت الغار، الّذي يُعطي للصابونة رائحتها المميّزة، وتأخذ الصابونة قيمتها من نسبة زيت الغار الّذي تحتويه، فكلما زادت النسبة تزيد قيمة الصابونة. وتشتهر المنطقة المحيطة بحلب وبعض المناطق الساحلية بشجر الغار الذي يُستخرج منه الزيت. يدخل نوع من أنواع زيت الزيتون يُسمى “زيت المطراف” هو الآخر كمكّون أساسي يُعطي للصابونة لونها الداخلي المائل للأخضر وكذلك فوائدها. بقي مكوّن أخير وهو أحد السوائل القلويّة التي تكون مسؤولة بشكل أساسي عن إعطاء القوام الصلب للصابونة. أُستخدم قديمًا بادئ الأمر النبات الحشيشي المدعو “القلى” كالمادة القلويّة، ولكن الآن يستعمل مُعظم الصنّاع مادة “الصودا”، لأنّها تحتاج نصف الوقت فقط لتحويل السائل إلى القوام الصلب.
تحتاج كل صابونة إلى سنة كاملة تقريبًا لتصبح جاهزة للبيع، حيث تبدأ عملية الصناعة بمرحلة أولى وهي مرحلة الطبخ، وتبدأ في منتصف الشتاء وتستمر إلى منتصف الربيع، وفي هذه المرحلة يقوم الصُنّاع بخلط كل من زيت الزيتون وزيت الغار مع المادة القلوية على درجة حرارة تقريبًا 200 درجة مئويّة. بعدها ننتقل إلى المرحلة الثانية فيُفرش المزيج على أرضية ملساء ويُقطّع إلى مكعبات متساويّة، بعد أن يُترك لمدة تتراوح بين خمسة إلى ثمانية أشهر ليجف المزيج ويأخذ شكله الصلب.
المرحلة الأخيرة تتمثل في ختم كل صابونة بختم يخص المعمل، ومن ثمّ توزع على محلات التجزئة ليشتريها الزبائن، ويتمتعوا بمنتج طبيعي مائة بالمائة ويساعد على العناية بالبشرة والشعر، ناهيك عن رائحته المميّزة وقيمته التراثية الكبيرة.
كما رأيتم فإنّ طريقة التحضير بذاتها ليست بتلك الصعوبة، ولكن بالتأكيد لن يستطيع أحدنا القيام بها بتلك السهولة في البيت، لأنّها تعتمد بشكل كبير على الخبرة في توزيع نسب المكوّنات الثلاثة، وكذلك مدة بقائها على النار واختيار السطح الأملس وما إلى ذلك من جزئيّات بسيطة تُعطي تميّز المنتج.
هجرة الصابون مع هجرة صنّاعه
أثرت الحرب على الصابون الحلبي كما أثرت على كل مفاصل الحياة الأُخرى، حيث باتت صناعة الصابون في مدينة حلب بسبب الحرب أمرًا شبه مستحيل وخسرت المدينة معظم الصناع الّذين هاجروا داخليًا وخارجيًا، و تناثروا في مدن سوريا ودول عديدة أُخرى مثل تركيا، ولبنان والأردن وألمانيا وفرنسا وكندا، ليكتب كل منهم قصة نجاح جديدة في مكان استقراره.
وبسبب تلك الهجرة الداخلية، نشطت هناك في دمشق حوالي 4 منشآت بعد الحرب، ووصل إنتاجها ما بين 2000-2500 طنّ سنويّاً. كما نشط عدد من المنتجات في عفرين حيث توجد من 25-30 منشأة نتيجة لتوفّر كروم الزيتون ومعاصر الزيت، والطقس الملائم.
أمّا تركيا فشهدت إنشاء القسم الأكبر من المنشآت في خارج البلاد، وذلك بسبب الحدود القريبة من حلب والآمان والمناخ المشابه، فيعمل في تركيا خمسة عشر معملًا عشرة منها في مدينة نيزيب، منشأتين في مدينة عنتاب، ومنشأة في كل من أنطاكيا مرسين وكلّس. ومصنع مرسين هو الوحيد الّذي يصنّع الصابون السائل فقط بسبب رطوبة الطقس، مما يدل على أهمية الطقس في هذه الصناعة.
السيد نبيل أندورة، وهو فرد من عائلة من صُنّاع الصابون التقليديين، ولكنه كغيره اضطر إلى مغادرة سورية لينشئ عمله مجددًا في تركيا، والنمسا
“كان قرار المغادرة صعبًا، صعبًا جدًا. لكن كان من الخطر جداً البقاء، شخص مثلي – عمري 61 سنة – لقد فقدت كل شيء. لقد فقدت عملي الشاق. فقدت تاريخي”.
وقد بدأ أندورة شركته الخاصة، نوبل للصابون، منذ 20 عامًا. ونمّاها إلى شركة تبلغ قيمتها السوقية 10 ملايين دولار، وتُصدّر الصابون إلى الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، والمميز في عمل أندورة هو تقديم الصابون الغار في علب موزاييك وذلك للمحافظة على صناعتين في نفس الوقت.
بدوره موقع العربي الجديد سلّط الضوء على قصة نجاح ثلاثيّة، لصناعة الصابون وتسويقه في كندا، حيث واجه عبد الفتاح صابوني في كالكاري، بمقاطعة ألبرتا، العديد من الصعاب لكي ينطلق بمشروعه، حيث صرّح للعربي الجديد:
“لم يكن الأمر سهلًا، فقد واجهت مصاعب كثيرة، أهمها فهم طبيعة نظام سوق العمل الكندية، أضف إلى ذلك حاجز اللغة، وقد كرست سنة كاملة فقط لدراسة الأمر لكي أستطيع التواصل مع الناس”.
وتحدث أيضًا عن صعوبة إيجاد المواد الأولية، وكيف ساعده تعرفه على شريكه الثاني، وهو وليد بلشة، حيث وجد نفسه وليد بعد عامين من اللجوء إلى كندا خارج خبرته في العمل، وهو الذي اعتاد على العمل كمستورد لإطارات السيارات، وبعد مجيئه إلى كندا فكر بانطلاقة أخرى، بمشروع مختلف من الصفر، ومن ثمّ بدأوا مشروعهم مع الشريك الثالث، حسن حاضري، الذي لديه خبرة في المهجر كونه يقيم هناك منذ 25 سنة.
واعتمد منتجو هذا الصابون السوري على تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي لنشر ما ينتجونه في المجتمع الكندي “الذي بات يقبل على صابون حلب اليوم”.
لكن بالرغم من تفوّق البعض على أنفسهم وبناء شركات جديدة في المهجر لصناعة الصابون إلّا أنّ صناعة الصابون في المهجر ليست كما هي في حلب، ويلخص أندورا السبب بقوله بأنّ الصابون سيختلف ببساطة إذا لم يتم صنعه في حلب.
مستقبل الصناعة
الآن الأوضاع أكثر أمانًا في حلب، وهو ما ينبئنا ربما بعودة بعض المصانع للعمل، مما سيُعيد للصناعة رونقها ولو جزئيًا، بالإضافة إلى انتشارها عالميًا عن طريق رواد الأعمال الّذين لا توقفهم الظروف الصعبة، ولا المناخ السيء.
بالإضافة إلى ذلك يحاول البعض التجديد في الصناعة، وإدخال بعض التعديلات الطفيفة، فأندورا مثلًا يحاول إنتاج مجموعة من الصابون العشبي وتعديله لتناسب أذواق السوق الحديثة، وذلك باستخدام البابونج العضوي والعسل والأوريجانو.
يمكن تحديث الصناعة على مستوى التسويق، فعلى عكس الصناعة التقليديّة، فإنّ التسويق يمكن أن يكون عصريًا جدًا، وخاصة مع التوجه العام في العالم إلى المنتجات المصنوعة من مواد طبيعية لا تدخلها المواد الكيميائية نهائيًا.
إلى هنا تكون قصة صناعة الصابون الحلبي قدّ انتهت، وبقي أن تتركوا لنا من خلال التعليقات خبراتكم في مجال صناعة الصابون الحلب، وأن تشاركونا بقصص نجاح لروّاد وصنّاع هذه الصابونة في كل بقاع الأرض.
رابط المقال الأصلي: siba world