مقالات

صابون الغار الحلبي.. حكاية حرفة مشبعة بعبق التاريخ

لكل مدينة رموز لا تُعرّف إلا بها، ومفاتيح لا يملك عناوين أبوابها إلا من تجوّل في سراديب تاريخها، فمن جاب سجلات أقدم المدن المأهولة عبر التاريخ يؤمن أن أسطر معدودة لن توفيها حق امتدادها الحضاري.

عرفت محافظة حلب السورية، بتنوع إرثها الثقافي والتاريخي، وتعدّى ذلك إلى تفوقها في الجانب الاقتصادي، لتصبح حلب مركزاً صناعيّاً هاماً تحقق الاكتفاء المحلي والتصدير العالمي، فقد ازدهرت بإنتاج مختلف صناعات النسيج، والمنتجات الغذائية والصناعات التقليدية والحديثة على اختلاف أنواعها. وما زالت حلب إلى يومنا هذا تحافظ على ممارسة بعض الحِرف التي تناقلتها عبر الأجيال.

ومن الحرف المرتبطة بتراث مدينة حلب؛ صناعة “صابون الغار”، أو كما يُعرف “الصابون الحلبي” الذي ما زال الحلبيون يحافظون على إنتاجه بالطريق التقليدية منذ 1200 عام. ويعتبرون أن أدوات التنظيف المستخدمة حالياً لم تتفوق عليه.

 

هوية وجذور تاريخية

استخدم الرومان الصابون وكذلك الفينيقيون والغرب الأوروبي، ويُقال إن الملكة المصرية كليوباترا والملكة زنوبيا في سوريا حرصتا على اقتناء صابون الغار، كما بدأت صناعة الصابون في القرن الثالث عشر للميلاد وكان لا يستطيع شراءه إلا الأغنياء بسبب ارتفاع الضريبة عليه حتى عام 1853 عندما ألغيت الضريبة وأصبحت أسعار الصابون بمتناول الجميع. ولم يَسلم الصابون الحلبي من تقليد الأوروبيون له فأنتج الفرنسيون صابونا مُشابها سموه “صابون مرسيليا”.

ويبدو أن أسباب تفرّد حلب في صناعة صابون الغار عن غيرها من المُدن نظراً لتوفر أشجار الزيتون والغار بكثرة في المدينة فزيتهما هما المكونان الأساسيان لمزيح المواد الأولية لصناعة الصابون، فضلا عن ملاءمة الظروف المناخية للإنتاج في مدينة حلب

ويعود أصل تسمية صابون “الغار” إلى شجر الغار دائمة الخضرة المعروفة بفوائدها وأهميتها منذ القديم. وقد ذُكرت شجر الغار في الحضارة اليونانية والإغريقية، فقد كانوا يستخدمون أغصان شجر الغار أكاليل للنصر، وما زالت أوراق الغار تُستخدم في الطبخ إلى يومنا هذا. أما زيت الغار فيُستخرج من ثمار أشجار الغار يدوياً وهو زيت عطري يدخل في صناعة الصابون بالإضافة إلى زيت الزيتون.

 

 

لم يكن صابون الغار فقط مجرد ثقافة، يتمسّك به أهله لقيمته التراثية وفوائده الطبية، بل تعتبر صناعة الصابون حرفة تشغل عدداً كبيراً من الأيدي العاملة سواء في المعامل التقليدية الصغيرة أو في المصانع الموجودة في مدينة حلب وفي ريفها.

حيث يصل عدد المعامل إلى أكثر من 85 معملاً لإنتاج صابون الغار حرصاً على تلبية حاجة الاستهلاك المحلي أو التصدير، فضلا عن هجرة عدد من المعامل إلى خارج حلب بسبب خروج أصحاب المهنة إلى دول اللجوء لما فرضته أحداث الثورة السورية في عام 2011 من ظروف عدم توفر مقومات استمرار الإنتاج وكذلك هجرة الحرفيين في صناعة الصابون.

طقوس الصناعة

في فصل الشتاء تبدأ عملية صناعة الصابون الحلبي (الغار) من بداية شهر كانون الأول لغاية شهر نيسان وتتوقف في فصل الصيف. ويتكون صابون الغار الحلبي من مكونين أساسيين زيت الغار وزيت الزيتون، وتضاف مادة “الصودا” لتحويل المزيج السائل إلى مواد صلبة، أما قديماً فكانت تُستخدم  مادة “القلى” وهي عبارة عن نبات حشيشي ينمو في البادية لكنها تستغرق وقتاً أطول في عملية التحويل.

يُغلى المزيح على درجة حرارة عالية تصل (200) مائوية، ثم يُضخ على أرضية مستوية، ويحتاج من (6- 9) أشهر حتى يجف الخليط وتصبح الألواح قاسية جاهزة للتقطيع على شكل مكعبات، وتنتهي عملية صناعة الصابون في ختم اسم المصنع على كل قطعة صابون.

وفي بعض الأحيان يحمل الختم صورة قلعة حلب. بعدها تصبح قطعة صابون الغار جاهزة للاستخدام ولو مضى على عمر تصنيعها سنوات عديدة، إذ تبقى محافظة على جودتها دون أن تفقد رغوتها الكثيفة ورائحتها العبقة.

 

 

يختلف لون صابون الغار عن غيره من أنواع الصابون بوجود طبقة خارجية ذات لون أصفر ذهبي، أما لونه في الداخل أخضر فاقع، وفي العموم يعود اختلاف لون الصابون أصفر أو أخضر بسبب تأكسد الصابون من العوامل الجوية المحيطة به، فاللون الأصفر للصابون يدل على قِدمه، أما اللون الأخضر فدليل على حداثته.

وتزداد تكلفة الصابون تبعاً إلى نسبة زيت الغار فيه التي تتراوح بين (2 – 40%) فكلما زاد كميت زيت الغار ازدادت جودته، بينما يحتوي على ما نسبته (60-98%) من زيت الزيتون. وهناك بعض الأنواع يُطلق عليها “البلدي” وتخلو تركيبته من زيت الغار.

ولا تقتصر قيمة صابون الغار في التنظيف ورائحته العطرة فحسب، بل لصابون الغار فوائد عديدة، فهو معقم للجلد ويرطب البشرة ويساعد على تغذيتها ونضارتها كما يُؤخر ظهور التجاعيد.

وله دور في القضاء على أمراض الحساسية، عدى أنه يؤخر ظهور الشعر الأبيض (الشيب) ويقلل منه، وتكمن فوائد صابون الغار في احتوائه العديد من الفيتامينات والمعادن، خاصة فيتامين (E ).

وتجدر الإشارة إلى اهتمام الشعب العراقي باستخدام الصابون الحلبي بكثرة، ويطلقون عليه صابون “الركة”، وقد استبدلوه بالصابون الإنقليزي بعد اكتشافهم فوائده الطبيّة ومكوناته الطبيعية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى